منتدى للمفكرين والمفكرات ومقلاتهم وآرآئهم في الفلسفة والعلم
التوازن بين المحسوس و المتعالي : قراءة في فلسفة الدكتور هاشم نصار
حياة صالحي
في فلسفة الدكتور هاشم نصار، لا يبدأ الوعي من الفكر، بل من الرؤية. فالرؤية، كما يقول، هي انبثاق الحقيقة من صميم التجربة الإنسانية حين يتوحّد الظاهر والباطن، التشخيص والتجريد، الجسد والروح. إنها ليست فلسفة للتنظير، بل منهج للوجود، يقترح على الإنسان أن يرى نفسه والعالم من خلال جدلية الحضور والغياب، الصورة والمعنى، الحرف والمقصد، ليتحرر من أسر الشكل دون أن يهجره، وليصعد من الملموس إلى المتعالي دون أن يتنكر للأرض التي منها وُلد.
التشخيص عند نصار هو اللغة التي تتحدث بها الحياة في مستواها الأول، في جسد الإنسان، في طعامه، في علاقاته، في التاريخ والمجتمع. هو الوجود كما نعيشه، لا كما نتخيله. أما التجريد، فهو الوجه الآخر للوعي، هو تلك القدرة على النظر من فوق الزمن، على رؤية الوحدة في تعدد الصور، وعلى إدراك أن كل شكل ما هو إلا قناع مؤقت لجوهرٍ لا يتغير. ومن هنا، تصبح فلسفة التشخيص والتجريد ليست مجرد ثنائية معرفية، بل حركة أبدية للوعي الإنساني بين العالمين: عالم المادة وعالم المعنى.
يقول نصار إن “الإنسان لا يُختزل في الجسد، كما أن الروح لا تُدرك إلا عبر الجسد”. في هذا القول تختصر فلسفته كل جدل الفلاسفة من قبل: الإنسان ليس روحًا تحلّ في جسد، ولا جسدًا تُضاف إليه روح، بل هو كائن متكامل، يُشخَّص ليُجرّد، ويُجرّد ليُشخَّص من جديد. في كل تجربة يعيشها الإنسان، في كل شعور أو فكرة أو خطأ، هناك تشخيص يُثبت الوجود، وتجريد يُبرّر المعنى. ومن هذا التفاعل تنشأ “الحياة الواعية” كما يسميها نصار، أي تلك التي تدرك ما وراء الحدث دون أن تفرّ منه، وتعيش الزمن دون أن تستعبده.
وحين يقترب نصار من الدين، لا يراه مؤسسة جامدة ولا طقوسًا شكلية، بل يرى فيه أعظم تجلٍّ للتشخيص والتجريد في التاريخ الإنساني. فالدين، كما يشرحه، هو التشخيص الأعظم للمعنى في صورة كلمة، في وحيٍ تجسّد في نص، ثم أطلق رحلته نحو التجريد في فهم الإنسان له عبر الأزمنة. النص الديني هو خطاب مزدوج: ظاهرٌ يخاطب الحواس، وباطنٌ يوقظ الروح. حين يتوقف العقل عند الظاهر فقط، يموت الخطاب في شكله، وحين يهيم في الباطن دون أرض، يتحول إلى سرابٍ بلا جذور. وحده التوازن بين التشخيص والتجريد يجعل من الدين طريقًا حيًّا للإنسان، لا سجنًا فكريًا ولا حلمًا غامضًا.
أما في العلم والفكر، فإن الدكتور نصار لا يفصل بين التجربة والمبدأ، بين المعادلة والغاية. فالعلم عنده تشخيصٌ للكون، لكنه يظل ناقصًا ما لم يُكمله التجريد الذي يمنحه المعنى. العلم يصف، أما الفلسفة فتفهم، والفهم لا يتم إلا حين تتلاقى الدقة التجريبية مع البصيرة الوجودية. ولهذا يربط نصار دائمًا بين العلم والروح، لأن المعرفة التي لا تعي ذاتها تتحول إلى أداة، والمعرفة التي تنفصل عن التجربة تتحول إلى خيال.
وفي فلسفة الأبعاد السبعة التي يربطها نصار بفكرته الكبرى، نجد الامتداد الكوني لفلسفة التشخيص والتجريد. فكل بُعد هو مستوى من الوعي، يبدأ من التجربة الحسية وينتهي عند الإدراك الكوني، حيث تتوحد الروح مع الحقيقة. في هذا التصور، الإنسان ليس كائنًا عابرًا يعيش حياة واحدة، بل هو مسافر عبر أبعاد من الوعي، يحمل في كل بعدٍ شكلًا جديدًا من التشخيص، ويستعيد في كل عبورٍ مستوى أعمق من التجريد. بهذا المعنى، يصبح الموت استمرارًا للحياة، لا نهايتها، لأن الروح لا تفنى بل تتبدل، كما تتبدل الصورة حين تنعكس في مرآة أخرى.
يعلّمنا نصار أن فلسفة التشخيص والتجريد ليست دعوة للهروب من الواقع، بل دعوة لرؤيته كما هو، ولكن بعيون مفتوحة على المعنى. الإنسان حين ينغمس في التفاصيل دون أن يرى الكل، يضيع في الزمن، وحين يحلّق في التجريد دون أن يلمس الأرض، يفقد اتصاله بالحياة. وحده من يجمع بين الأرض والسماء في وعيه يستطيع أن يعيش التوازن الحقيقي. هذا هو سرّ الإنسان كما يراه نصار: كائنٌ يجمع المتناقضات دون أن يلغيها، ويعيش في العالم دون أن يُختزل فيه.
في النهاية، فلسفة التشخيص والتجريد هي مشروع إنساني شامل، يعيد للوجود معناه وللحياة عمقها. إنها فلسفة لا تنفصل عن التجربة اليومية، لكنها ترفعها إلى مرتبة الإدراك الكوني. هي تذكير دائم بأن كل ما نراه ليس سوى مظهرٍ من جوهرٍ أعمق، وأن الإنسان، في كل ما يفعله، إنما يبحث عن وجهه الحقيقي، ذلك الوجه الذي لا يُرى بالعين، بل يُدرك بالبصيرة.---


للتواصل مع الدتور هاشم نصار
+962790863307
sevendimensionspodcast@gmail.com
المنشورات على هذا الموقع تمت بواسطة فريق الإعداد والنشر لفلسفة التشخيص والتجريد

